حرب إسرائيل وإيران: ميزان الردع النووي المختل وشلل المنتظم الأممي

منذ 13 يونيو 2025، دخلت إسرائيل وإيران في مواجهة عسكرية مباشرة غير مسبوقة، كسرت قواعد الاشتباك التقليدي بين الطرفين، وفتحت الباب على صراع إقليمي أوسع. القصف الإسرائيلي على منشآت نووية وعسكرية في العمق الإيراني أسفر عن أكثر من 600 قتيل، بينهم 250 مدنيًا على الأقل، بينما اقتصرت الخسائر الإسرائيلية على 24 مدنيًا وفق الإحصاءات الرسمية. هذه الفجوة في الخسائر ليست عَرَضًا، بل نتيجة حتمية لاختلال ميزان الردع، وامتلاك إسرائيل سلاحًا نوويًا غير مُعلن خارج أي رقابة دولية.
الردع النووي الإسرائيلي: سلاح القنبلة الصامتة
منذ منتصف الثمانينات، تجاهلت إسرائيل بشكل منهجي قرارات مجلس الأمن الداعية إلى إخلاء الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل. في المقابل، عزّزت برنامجها النووي العسكري بشكل سري، وراكمت ترسانة يُقدّرها خبراء بـ400 رأس نووي، موزّعة بين رؤوس جوية وبحرية وصواريخ بعيدة المدى. هذه القدرة جعلت إسرائيل الدولة الوحيدة في المنطقة التي تملك “ردعًا مطلقًا”، وهو ما يفسر سلوكها السياسي والعسكري القائم على المبادرة والهجوم، دون اعتبار جدي لأي رد فعل مماثل. فهي تتحرك ضمن مظلة ردع غير متوازن، تسمح لها بشن عمليات عسكرية نوعية مثل استهداف مفاعل آراك أو اغتيال علماء في شوارع طهران دون أن تخشى انتقامًا مشابهًا.
إيران: بين الردع المستحيل والانكشاف السيادي
في المقابل، سعت إيران إلى بناء برنامج نووي متعدد الأبعاد، دفاعًا عن سيادتها وردًا على التفوق الإسرائيلي والغربي. ومع ذلك، لم تصل إلى إنتاج قنبلة نووية، وظلّت تُراوح في هامش التخصيب العالي والتهديد الرمزي. ضربات يونيو 2025 وضعت إيران في زاوية ضيقة: إما الرد المحدود أو التصعيد الشامل الذي قد يُسقط النظام. اختارت طهران سياسة “ردّ الكلفة”، عبر الطائرات المسيّرة والصواريخ، مع الحفاظ على هامش لعدم دخول مواجهة مباشرة شاملة مع قوة نووية. لكنها في الوقت نفسه، تُدرك أن الردع النووي بات ضرورة وجودية، ما يعزز احتمالية دخولها رسميًا سباق التسليح النووي.
انحياز واشنطن وشلل مجلس الأمن
مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، اكتسبت إسرائيل غطاءً غير مشروط، سمح لها بشن الحرب دون تنسيق دولي، أو اكتراث لأي شرعية أممية. بل أكثر من ذلك، جرى تعطيل كل المساعي الأوروبية أو الأممية لفرض وقف إطلاق نار. لم يصدر عن مجلس الأمن أي قرار ملزم حتى اليوم. الأمم المتحدة اكتفت بتصريحات شكلية. العالم يتعامل مع الصراع بمنطق المصالح والتحالفات لا بمنطق القانون، في مشهد يعكس تآكل شرعية النظام الدولي بشكل مقلق.
سبات عربي
الموقف العربي الرسمي كان باهتًا. لم تُصدر الجامعة العربية أي موقف موحّد. البيانات التي خرجت من بعض العواصم لم تتجاوز دعوات فضفاضة لـ”ضبط النفس”. بل ظهرت مؤشرات على تنسيق أمني غير مباشر بين إسرائيل وبعض العواصم الخليجية. غياب الدور العربي لم يكن فقط في السياسة، بل في الاقتصاد، والإعلام، والدبلوماسية. لم نرَ أي مبادرة عربية لاحتواء التصعيد، أو لرعاية وساطة، أو حتى لتمويل تحرك دولي حقيقي. هذا الفراغ أفسح المجال أمام تركيا وقطر وإيران للعب أدوار مركزية في إدارة الأزمة.
الارتدادات الاقتصادية: الشرق الأوسط يهتز والعالم يتنفس ببطء
الحرب لم تبقَ محصورة في جغرافيا الصواريخ والطائرات، بل انتقلت فورًا إلى الأسواق:
- ارتفع سعر النفط فوق 134 دولارًا.
- تعطلت 18% من حركة ناقلات النفط في مضيق هرمز.
- قفزت أسعار التأمين البحري ثلاثة أضعاف.
- الأسواق الأوروبية ارتبكت، ونفس الشيء للبورصات الآسيوية.
شركات الطاقة والسلاح العالمية استفادت، بينما دفعت الشعوب الثمن، من مصر إلى إندونيسيا. أما الدول الخليجية، فقد ربحت ماليًا في المدى القصير، لكنها أصبحت أكثر انكشافًا استراتيجيًا في المدى المتوسط.
السيناريوهات المستقبلية: ثلاثة مسارات خطرة
- هدنة مشروطة تحت الضغط الدولي: بوساطة تركية-قطرية-أوروبية، قد تُجمّد العمليات، دون الوصول إلى اتفاق شامل (احتمال متوسط).
- حرب إقليمية شاملة: تشمل حزب الله، الحشد الشعبي، الحوثيين، وربما تتوسع نحو الخليج (احتمال وارد).
- استمرار حرب الظل: من خلال عمليات استخباراتية واغتيالات وهجمات سيبرانية، بدون مواجهة تقليدية (احتمال ضعيف).
سؤال وجواب
هل اقتربت إيران من القنبلة النووية؟ وفق تقديرات غربية، إيران قد تمتلك القدرة على إنتاج قنبلة خلال 6 إلى 9 أشهر، لكنها تواجه عوائق سياسية وتكتيكية تمنعها من اتخاذ قرار مفصلي. هل يمكن لإيران امتلاك قنبلة نووية قريبًا؟ تقديرات استخباراتية غربية تشير إلى أن إيران قد تحتاج ما بين 6 إلى 9 أشهر لإنتاج سلاح نووي إن قررت ذلك، لكنها قد تتريث سياسيًا لتجنب تدخل عسكري شامل. هل هناك فرصة لتشكيل موقف عربي موحد؟ ضعيفة جدًا في ظل الانقسامات الحالية، إلا إذا تصاعد التهديد نحو الأمن الخليجي مباشرة، أو حدث انهيار كبير في أحد الأطراف. هل إسرائيل ستدفع ثمن الحرب؟ سياسيًا واقتصاديًا، قد تواجه ضغوطًا لاحقة، لكن في غياب رادع فعلي أو كلفة باهظة، ستبقى قادرة على فرض قواعد الاشتباك بشروطها.
هل هناك فرصة فعلية لموقف عربي موحد؟ في ظل الانقسامات الحالية وارتباط القرار العربي بمحاور خارجية، فإن ذلك مستبعد في المدى القصير، إلا إذا فرضت التهديدات الأمنية المباشرة واقعًا جديدًا.
العدالة المفقودة وردع بلا ضوابط
الصراع الدائر اليوم بين إسرائيل وإيران ليس مجرد حرب، بل هو تجسيد لفشل منظومة الردع في المنطقة، وتفكك النظام القانوني الدولي. حين تملك دولة قنبلة نووية بلا رقابة، وتضرب خصمًا لا يملك شيئًا سوى الصواريخ المتوسطة، فإن النتيجة لن تكون سوى الفوضى الأمنية والعدالة المفقودة. في ظل استمرار غياب ردع متوازن، وفقدان صوت عربي موحّد، واستثمار القوى الكبرى في الفوضى، سيبقى الشرق الأوسط ساحة مفتوحة لانفجارات قادمة، لا أحد يستطيع التنبؤ بنهايتها.
الصراع الحالي هو أكثر من مجرد حرب. إنه مرآة لاختلال التوازن الأخلاقي والسياسي والردعي في الشرق الأوسط. دون مراجعة عميقة لمفهوم الردع، وتفعيل نظام قانوني دولي عادل، فإن المنطقة لن تعرف استقرارًا، بل ستغرق أكثر في سباق تسلح وتفكك إقليمي مُمأسس.